لم يعد “العجاج” في مدينة دير الزور مجرد مشهد موسمي عابر، بل تحوّل إلى مكوّن شبه يومي من مكونات الحياة، يفرض نفسه على المشهد العام للمدينة وأريافها، وينعكس على تفاصيل الحياة الاجتماعية والصحية والاقتصادية للسكان. هذه الظاهرة، التي تعرف محليًا بـ”العجاج”، لا تقتصر على دير الزور وحدها، بل تمتد لتشمل أجزاءً واسعة من المناطق الشرقية لسوريا، مثل الحسكة والرقة والقامشلي، وتمثّل شكلًا من أشكال الرياح الموسمية المحملة بالغبار، وتعود أسبابها إلى عوامل مناخية وجغرافية متشابكة ومعقدة.
وبحسب الباحث المتخصص بالبيئة ورئيس تحرير مجلة “البيئة”، زاهر هاشم، فإن الرياح المحملة بالغبار، المعروفة محليًا بـ”العجاج”، هي ظاهرة طبيعية تتكرر بسبب عوامل متعلقة بالمناخ، والضغط الجوي، واتجاه الرياح.
تتشكل هذه الرياح في منطقة شمال إفريقيا، حيث يؤدي انخفاض الضغط الجوي فوق حوض البحر الأبيض المتوسط إلى هبوب رياح محلية من الصحراء الكبرى باتجاه البحر. تكون هذه الرياح جافة وحارة ومحملة بكميات كبيرة من الأتربة، وتتجه شرقًا أو شمال شرقًا، لتصل إلى مناطق واسعة من بادية الشام والعراق والجزيرة العربية. تُعرف هذه الظواهر بأسماء مختلفة حسب المنطقة، مثل “الخماسين” في مصر، و”السموم” في بلاد الشام، و”الهبوب” و”الطوز” في مناطق أخرى.
وعلى الرغم من أن العوامل الطبيعية تشكّل القاعدة الأساسية لهذه الظاهرة، إلا أن استمرارها وتكرارها بهذا الشكل الكثيف يعبّران عن أبعاد إضافية تتجاوز التفسير المناخي. فـ”العجاج” هنا ليس مجرد حالة جوية، بل مؤشر عن تفكك العلاقة بين الإنسان وبيئته في ظل واقع سياسي واقتصادي هش ومضطرب.
البيئة بين الطبيعة والإهمال
تمتد محافظة دير الزور على رقعة جغرافية صحراوية وشبه صحراوية، تتخللها أراضٍ زراعية محاذية لنهر الفرات. هذه التركيبة تجعلها مهيّأة لتشكل العواصف الغبارية، خاصةً مع تراجع الأمطار الموسمية، وارتفاع درجات الحرارة، وتكرار فترات الجفاف. لكن الظاهرة لم تكن بهذه الحدة قبل عقود، ما يعني أن العامل الطبيعي وحده لا يكفي لتفسير ما يحدث اليوم.
تتداخل هنا العوامل البشرية بشكل جوهري. فالحرب الممتدة منذ أكثر من عقد تسببت في هجرة آلاف السكان من قراهم وأراضيهم الزراعية، وغياب مشاريع التشجير، وتآكل المساحات الخضراء، وتزايد الرعي الجائر؛ أدى ذلك إلى فقدان الأرض لغطائها النباتي الواقي. هكذا لم تعد التربة تحتفظ بتماسكها، بل باتت عرضة للتطاير مع أقل حركة رياح. كما أن الانهيار العام في البنية التحتية للري والطرق والبيئة، أسهم في تفاقم المشكلة، دون أن تُطرح حلول جذرية أو حتى إسعافية من الجهات المعنية.
شهادات من قلب المعاناة
في مدينة دير الزور، تقول أم سارة: “ابني مصاب بالربو التحسسي، وكل عاصفة ترابية تتحوّل إلى كابوس يهدد صحته. لا نملك جهاز رذاذ في المنزل، والمستشفى العام لا يوفر الأجهزة اللازمة، وغالبًا ما نُترك لساعات دون أي علاج فعّال. حاولت اللجوء إلى أحد المستشفيات الخاصة، لكنهم طلبوا مبلغًا لا قدرة لي على دفعه. الأدوية إما مفقودة أو باهظة الثمن.. فإلى أين نلجأ؟”.
أما خديجة، وهي سيدة في الخمسينات من عمرها وتقطن في حي الجورة، فتقول: “العجاج أصبح من ملامح حياتنا، لكن المشكلة أنه بات يوميًا، لقد أرهقنا. الغبار يعلَق بكل شيء: الأثاث، والملابس، وحتى في الرئات”.
وعلى الطرف الآخر من الرواية، هناك من يرى في العجاج مظهرًا “أليفًا” من ملامح الهوية المحلية. يقول أبو قاسم، وهو مزارع من الريف الغربي: “إن لم يأتِ العجاج، نشعر أن هناك شيئًا ناقصًا. العجاج من عبق البلاد، من عبق البادية”. بينما يضحك أحد أصحاب المقاهي قائلًا: “من دون العجاج، لا نشعر أننا نعيش في الدير”.
لكن هذه العلاقة العاطفية لا تلغي حقيقة التأثيرات الصحية الخطيرة. ففي أحد المستشفيات الخاصة في دير الزور، يقول الدكتور أحمد، اختصاصي الأمراض الصدرية: “نستقبل بشكل شبه يومي حالات اختناق أو ضيق تنفس خلال موجات العجاج، خاصة بين الأطفال والمسنين. نضطر أحيانًا لإدخال المرضى للعناية”.
الحلول الغائبة: بين الممكن والمُهمل
وفي تفسير العوامل التي تؤدي إلى تكرار ظاهرة العجاج، أوضح زاهر هاشم أن هناك أسبابًا بيئية وأخرى بشرية تفاقم من شدة هذه الظاهرة وتكرارها. وأضاف: “يؤدي الارتفاع المستمر في معدلات درجات الحرارة الناتج عن التغير المناخي إلى زيادة جفاف التربة، مما يرفع من فرص تشكّل الغبار وانتقاله مع الرياح”.
وأشار هاشم إلى أن نقص الغطاء النباتي، الناتج عن قطع الأشجار وجفاف الأراضي الزراعية، يسهم بشكل مباشر في زيادة هذه الظاهرة من حيث وتيرتها وحدّتها، مؤكدًا أن البيئة المحلية فقدت تدريجيًا قدرتها الطبيعية على مقاومة عوامل التعرية.
وتابع قائلًا: “العجاج لا يقتصر تأثيره على الصحة العامة، خصوصًا على مرضى الجهاز التنفسي والقلب، بل يمتد أيضًا إلى القطاع الزراعي حيث يؤدي إلى ذبول المحاصيل نتيجة سدّ مسام النباتات وحجب أشعة الشمس عنها، فضلًا عن تأثيره السلبي على حركة المرور والأنشطة الاقتصادية اليومية، وحتى تعطيل الدوام الدراسي في كثير من الأحيان”.
وختم حديثه بالقول: “للحد من تفاقم هذه الظاهرة، لا بد من دعم مشاريع الأحزمة الخضراء، وزراعة الأشجار الحرجية التي تعمل كمصدات للرياح، ومنع قطع الأشجار، والعمل على توسيع رقعة الغطاء النباتي كوسيلة فعالة لمكافحة التعرية والحد من زحف الغبار نحو المناطق السكنية”.
وفي السياق ذاته، أوضح الدكتور أحمد أن التعامل مع الظاهرة لا يقتصر على الجوانب البيئية فقط، بل يتطلب أيضًا استجابة صحية عاجلة، مؤكدًا ضرورة دعم المشافي العامة بالأدوية والمستلزمات الأساسية مثل أجهزة الرذاذ وأسطوانات الأوكسجين، إضافة إلى تأمين التيار الكهربائي للمراكز الطبية على مدار الساعة، لضمان استمرارية الرعاية في أوقات العواصف الترابية.
ختاماً، العواصف الغبارية في دير الزور ليست مجرد تقلب مناخي. إنها تعبير عن هشاشة البيئة، وغياب الرؤية التنموية، وترك الناس في مواجهة الطبيعة بلا أدوات. أن تتنفس الغبار يوميًا، يعني أن تختبر نوعًا مختلفًا من التعب، تعب لا يُرى لكنه يُستشعر في الصدر والعين والرئة. وإذا كان العجاج جزءًا من ذاكرة المكان، فإنه اليوم جزء من معاناته. الحل لا يكمن في الهرب منه، بل في استيعابه، والاشتغال على أسبابه، وتوفير أدوات الحماية. بين الغبار والهواء، يحق للدير أن تتنفس.
ميسون محمد – ألترا سوريا